الجمعة، 4 فبراير 2022

 

الحوار الوطني المرتقب وفرص السلام في إثيوبيا : آدم شيخ حسن 

تتجه الحالة الإثبوبية نحو مصالحة وطنية بعد حرب أهلية دامية امتدت لمدة عامين ، تعدد اللاعبون فيها من أطراف محلية وأخرى إقليمية. ولقد حاولت الحكومة الإثيوبية وبقيادة رئيس الوزراء أبي أحمد تصوير الصراع وكأنه مؤامرة كونية تورطت فيها كل قوى الشر لإلحاق الأذى بإثبوبيا وضرب وحدتها ، مما يفرض على المواطنيين الإثيوبيين الدفاع عن سيادتهم ووحدة أراضيهم؛ لكن المتتبع للحالة الإثيوبية والصراعات المزمنة بين الإثنيات المختلفة يجد بسهولة أن الصراع الجديد ما هو إلا انعكاس حقيقي لصراع العرقيات على السلطة والثروة على مدار التاريخ. شهدت إثيوبيا هذه المرة صراعا معقدا كاد أن يقود إلى تفكك كامل لوطن إثيوبيا الذى لطالما روّج له أنه الواحة الأمنة في شرق إفريقيا ، والدولة الفولاذية الوحيدة التي لا تهزها الصراعات المحلية ولا التدخلات الخارجية في بنيتها السياسية وكذا في تماسكها الاجتماعي .

منذ انتخاب السيد أبي أحمد لرئاسة الوزاء في إثيوبيا في مطلع عام 2018م ، قام الرجل بإجراء إصلاحات داخلية لفتت نظر العالم من إطلاق سراح السجناء السياسيين وتعزيز حرية القول والصحافة وكذا المصالحة مع الجبهات المسلحة ، كما قام الرجل بتسوية ملف الصراع مع إريتريا العدو اللدود لنظام أديس أبابا سابقا ، بجانب مساهمته في تقريب وجهات النظر بين فرقاء السياسة في السودان ، الخطوات التي أهّلته للفوز يجائزة نوبل للسلام شتاء عام 2019 م ، وذلك باعتباره صانع سلام في منطقة باتت سمتها البارزة صراعات متكررة ومواجهات بين دول لو تكاملت لاستطاعت أن تقود القارة السمراء إلى بر الأمان.

لم تدم تلك الإنجازات وقتا طويلا لرئيس الوزراء الجديد ، فسرعان ما واجه تحديات محلية وأخرى إقليمية متمثلة بالتمرد الذى حدث في إفليم “تغراي ” ضد سلطته وقضية سد النهضة التي جذبت له عدوات غير تقليدية من الدول المجاورة خاصة دولتي مصر والسودان اللتين اعتبرتا المشروع تهديدا حقيقيا لكيانهما ولمستقبل أمنهما الغذائي ، ما أدخل البلاد في دوامة عنف وعنف مضاد .

 إن الحرب الإثيوبية التي بدأت شرارتها الأولى في إقليم “تغراي” في نهايات عام 2020م ، تأتي في سياق التنافس على السلطة في إثيوبيا ، إذ يعتبر السيد أبي أحمد أول رئيس وزراء من عرقية الأورومو ذات الغالبية السكانية في جمهورية إثبوبيا الفيدرالية . وعلى الرغم من أنه قد تم انتخابه في المرة الأولى من قبل الإئتلاف الحاكم ليحل محل السيد هايلي مريم ديسالين الذى قدم استقالته رضوخا للاجتجاجات الشعبية المطالبة بالإصلاحات ، إلا أنه قد أعلن تأجيل إقامة الإنتخابات بحجة وباء كورونا . وبذلك انقضت ولايته الدستورية دون الإتفاق مع الأطراف الأخرى – لاسيما الحكومات الفيدرالية – في مسألة الفترة الانتقالية والترتيبات التي تليها ، الأمر الذى أثار حفيظة جبهة تحرير تغراي لتعلن إقامة انتخابات في إقليمها ” أحادية الجانب” معلنة بذلك قطع ا العلاقة مع الحكومة الاتحادية .

الجدير بالذكر في هذا الصدد أن الدستور الإثيوبي يسمح ذلك للأقاليم المبنية على أساس الفيدرالية الإثنية، بل يتجاوز أحيانا لمنح الحكومات الولائية حق تقرير مصيرهم وطلب الانفصال عن باقي الجمهورية إذا قرر سكان الإقليم ذلك .

فالحرب التي جرت في منطقة تيغراي بين قوات الدفاع الوطني الإثبوبي وجبهة تحرير تغراي الشعبية كانت فظيعة ، كما كان هناك انتهاكات جسيمة في حقوق الإنسان حسب التقارير الأممية والهئيات الدولية . إضافة إلى ما تعرض له سكان تلك المنطقة من نزوح داخلي وتشرد إلى الدول المجاورة خلقت حالة إنسانية لم بسيق لها مثيل في المنطقة.

هذه الحروب لم تقف عند حد منطقة تغراي بل انتقل عدواها إلى الأقاليم المجاورة، إذ استطاعت جبهة تحرير شعب تيغراي نقل المواجهات مع القوات الحكومية إلى إقليم أمهرا المجاور وكذا إقليم عفر الذى يقع في شمال شرق إثيوبيا . في خضم تلك التطورات الميدانية كانت هناك محاولات مستميتة من طرفي الصراع لحسم النزاع عسكرياً وبأي ثمن، وعدم استعداد أي منهما لقبول النداءات والمناشدات الدولية والإقليمية المتكررة لوقف إطلاق النار وإيجاد تسوية سلمية للصراع.

وفي تطور لافت تمكنت قوات الجبهة الشعبية لتحرير تغراي في شهر ديسمر من العام المنصرم من قطع أحد أهم خطوط إمداد الجيش الإثيوبي، وذلك بعد نجاح قواتها ومقاتلي جيش تحرير أوروميا المتحالفين معها في بسط السيطرة الكاملة على مدينة “ديسي” الإستراتيجية الواقعة على تقاطع الطرق الرئيسية التي تربط العاصمة أديس أبابا ببقية المدن والمناطق الداخلية، الأمر الذي أدى إلى إرباك حسابات الجيش الإثيوبي وتعقد تحركاته العسكرية لمواجهة التطورات الميدانية في جبهات القتال المشتعلة في المناطق الإستراتيجية ، مما حمَّل رئيس الوزراء أن يتولى قيادة المعارك في الحبهات الأمامية ويسند الى نائبه مهمة تصريف الأعمال في البلاد .

وكما نقلت كثير من وسائل الإعلام حقق الجيش الإثيوبي انتصارات ميدانية أجبرت قوات جبهة تحربر تغراي التقهقر إلى مناطقهم والانسحاب من إقليمى عفر وأمهرا . ورغم أن قيادة الجبهة وصفت الانسحاب بالتكتيكي إلا أن المراقبين في الشأن الإثيوبي يذهبون إلى أن هزيمة قد ألحقت بقوات الحبهة وحلفائها من المعارضة الأخرى المسلّحة .

حوار وطني

وفي ظل هذه الأجواء الملبدة بغيوم الشك والريبة أطلقت الحكومة الإثيوبية حوار وطنيا شاملا في اجتماع لها بعد عودة رئيس الوزراء آبي أحمد من جبهات القتال، كما قررت تشكيل هيئة للحوار الوطني كمؤسسة مستقلة عن الدولة تتمثل مهمتها إطلاق مبادرة الحوار الوطني، وتحديد آليات لتحقيق محادثات بنّاءة من شأنها أن تعزز الوحدة الوطنية وتعالج التصدعات الاجتماعية. وكبادرة حسن نية من قبل الحكومة قررت السلطات الإثيويية إطلاق سراح سجناء معارضين أبرزهم : الناشط الأرومي جواهر محمد ، وأحد قيادات جبهة تحرير تغراي ” سبحت نقا ” ، إضافة إلى عناصر قيادية تابعة لجبهة تغراي تم اعتقالهم أثناء الحرب .

وبما أن إثبوبيا بلد مهم في إفريقيا بحكم كونه مقرا للاتحاد الإفريقي أبدي المجتمع الدولي حرصه في إيجاد تسوية سياسية للصراع القائم بين الإثيوبيين وتعزيز مسار المصالحة بين الفرقاء من أجل تخطي على هذه الأزمة العويصة. ولهذا جاء موقف الاتحاد الأوربي تجاه أزمة إثيوبيا مشجّعا لبدء المحادثات مع المعارضة ووقف غير مشروط لإطلاق النار ، كما أبدت الولايات المتحدة الأمريكية كذلك تأييدها للحوار، ووقف إطلاق النار ، والسماح للعمليات الإغاثية أن تصل إلى المحتاجين في مناطق التوتر ، علما أنها قد أرسلت سابقا مبعوثها  فيلتمان لدعم مسار المصالحة في إثيوبيا والحد من تجدد الحرب . أما الأحزاب الإثيوبية فقد تأرجت ما بين موئدة لمبادرة الحوار ورافضة لها ، مع وجود أطراف متحفظة على الآليات .

 وأيا كانت الأحوال فلا شك أن إثيوبيا الفيدرالية تمر بمنعطف تاريخي خطير ، ربما يقودها إلى تفكك في بنية منظومتها السياسية والأمنية والاجتماعية ، و التي بلا محالة – إذا حدثت – ستنعكس على الأمن والاستقرار في منطقة القرن الإفريقي .

ومجمل القول إن تفكك إثيوبيا لا يخدم لأى أحد، وبالتالي من الأهمية بمكان التركيز على عملية المصالحة كوسيلة لحل المشكلة الإثيوبية ، فمباردة الحوار بحد ذاتها إيجابية ولكنها يجب أن تشمل كل الأطراف الإثيوبية المتصارعة على السلطة مع التركير على الجانب الإنساني في المرحلة الراهنة وتقدير الموقف بكامل جوانبه لتعود المياه إلى مجاريها الطبيعية في المستقبل القريب. وتجدر الإشارة أيضا إلى أنه بقدر جدية الأطراف الصراع المعنية تكون نتيجة الحوار الوطني المعلَن، والذي يبدو – بحسب بعض المحللين – كفرصة أخيرة للسلام وإنقاذ إثيوبيا من التفكك وحرب أهلية مدمرة تؤثر المنطقة برمتها.

الخميس، 4 فبراير 2021

 




                                               
                                                   Adam Sh Hassan Hussein


ثانيا: مكونات المجتمع المدني  :

كثيرا ما يختلف فى تحديد العناصر المكونة للمجتمع المدني في الصومال وهذا يعود بدوره إلى عدم وجود تعريف جامع ومانع للمجتمع المدني عموما ، إذ يكمن جزء من المشكلة في أن المجتمع المدني مفهوم ضبابي ومطاط على نحو لامناص منه ، بحيث إنه لايوفر بسهولة قدرا كبيرا من الدقة([1]) . فمصطلح المجتمع المدني إلى حدما شديد الغموض وضبابي وقابل لتفسيرات وتفسيرات مضادة تبعا لوجهة نظر الكاتب أوخلفيته الثقافية أو العلمية، ولعل ذلك يرجع بالدرجة الأولي إلى التباين الشديد ما يعد ومالايعد من ضمن المجتمع المدني وبين أهداف المجتمع المدني وغاياته  ([2]).  وعلى الرغم من صعوبة تحديد مؤسسات أو منظمات  بعينها بأنها من المجتمع المدني دون غيرها إلا أن المعايير المتفقة عليها عالميا فى طبيعة أعمال المجتمع المدني وما يستشف من التعاريف المختلفة للمجتمع المدني من ِشأنها أن تحدد العمل المدني ومؤسساته بكل سهولة ويسر .

المجتمع المدني هو : مفهوم واسع للغاية يستلزم العديد من التصنيفات المختلفة للمنظمات التي تحته. يصف - لاري دايموند - المجتمع المدني على أنه عالم من الحياة الإجتماعية المنظمة التي هي طوعية ، ذاتية التوليد ، ذاتية الدعم ، ومستقل عن الدولة ، وملتزم بنظام قانوني أو مجموعة من القواعد المشتركة.  ضمن هذا الإطار يقع العديد من المنظمات غير الحكومية (الدولية والإقليمية والوطنية) ، والمنظمات الدينية ، والمنظمات المجتمعية ، والمنظمات الشعبية الأخرى بما في ذلك التعاونيات ، وجمعيات الأحياء ، والنوادي الاجتماعية وغيرها ([3]) .  وقد ورد عن مركز المجتمع المدني في كلية لندن للاقتصاد بأن "المجتمع المدني يشير إلى حلبة العمل الجماعي الذي لا يتسم بالإكراه، والذي يدور حول مصالح وأهداف وقيم مشتركة ومتبادلة. ولذلك يضم المجتمع المدني عادة التنوع الشديد من حيث المساحة، واللاعبين، والأشكال المؤسسية، وتختلف في الدرجة الرسمية، والاستقلال الذاتي والنفوذ، كما يضم المجتمع المدني في أغلب الأحيان منظمات ومؤسسات مثل الجمعيات الخيرية المسجلة، ومنظمات التنمية غيرالحكومية، ومؤسسات المجتمع المحلي، والمنظمات  النسائية، والدينية، والاتحادات والنقابات المهنية والتجارية، وجماعات المساعدة الذاتية، التنمية الاجتماعية، الاتحادات التجارية، والتحالفات... الخ  . 

يستشف من كل ماسبق من تعريفات بان المجتمع المدني يشمل المنظمات غير الحكومية سوا كانت دولية أوإقليمية أو وطنية  ، إضافة إلي المنظمات الدينية ، والمنظمات المجتمعية ، والمنظمات الشعبية الأخرى بما في ذلك التعاونيات ، والنوادي الاجتماعية، ونقابات الأعمال . وبذلك تكون معظم منظمات المجتمع المدني العاملة في الصومال مطابقة لهذه المفاهيم والمعايير المذكورة من حيث الإستقلالية عن الدولة  والعمل بصورة حرة في المجال الطوعي ، مع وجود خصوصيات تنفرد بها البيئة المحلية الصومالية ومتطلبات واقعها .

إن الكثير من الدراسات التي تناولت عن المجتمع المدني ومؤسساته في الصومال مختلفة في تحديد هوية المجتمع المدني ، فهناك من يحصرها بالمنظمات الطوعية المحلية خاصة تلك التي لا صلة لها مع التيارات الإسلامية انطلاقا من مبدا ([4]) إبعاد العامل الديني عن المؤسسات المدنية الطوعية ، كما أن هناك من يعتبر كل المؤسسات الطوعية المحلية من صميم العمل المدني بغض النظر عن خلفياتها الإيديولوجية ، يخضعها فقط لمعيار ما تقوم به من عمل طوعي داخل المجتمع  وهذا ما يميل إليه الباحث  من منهجية أثناء تناوله بمنظمات المجتمع المدني في الصومال، لأن المنظمات الطوعية المدعومة من الدول الإسلامية أو تلك التي تتبع للتيارات الإسلامية لايمكن وصفها بمنظمات دينية لما لديها من مواقف إزاء مسائل حديثة  تصب فى صميم العمل الطوعي مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين ، كما أن لها دور في السياسة وأراء حول المستجدات السياسية في الساحة . ولذلك لم تعدهذه المنظمات تقليدية لاعلاقة لها بمتطلبات الواقع وفهم مفردات القضايا الدولية([5]).

 ثمة نقطة أخري ينبغي ذكرها في هذا الصدد وهى:  هل يعد القطاع التجاري والشركات الخاصة من المجتمع المدني  أم أنها تقع خارج إطار العمل الطوعى لما تسعي من ربحية فى أعمالها ؟  إن شمول القطاع التجاري تحت مظلة المجتمع المدني يتعرض لبعض الجدل على المستوى الدولي. هناك بعض الناس الذين يرغبون في قبول القطاع التجاري كجزء من المجتمع المدني، بينما هناك آخرون يعتقدون أن القطاع التجاري مرتبط بشكل وثيق جدا بالحكومة، خصوصا في بعض الدول. فقد قامت المنظمات غير الحكومية مثل التحذير الدولي بتطوير برامج خاصة بتعزيز دور الشركات في بناء السلام، بما في ذلك إرساء روابط وصلات أفضل بين الشركات التجارية والمجتمعات المحلية التي تأثرت بالصراعات  ([6]) . وعندما تمعن النظر في الحالة الصومالية ستجد أن القطاع الخاص والشركات التجارية قد ساهم ومازال يساهم في العمل الطوعي بشكل نسبي رغم أن الشركات التجارية  تسعى لهدف الربح .  وقد ضم الدكتور:  محمد أحمد شيخ علي القطاع التجاري  في رسالته([7])  "الصومال في مرحلة ما بعد تفكك الدولة : دور القبيلة والمجتمع المدني في الفترة 1991م، 1999م.  إلي العناصر  الثلاثة الأساسية للمجتمع المدني في الصومال  .

ومن نافلة القول نورد هنا كذلك أنه ما إذا يمكن إعتبار  الجماعات الإسلامية من عناصر المجتمع المدني . فالحقيقة أن في الصومال تيارات إسلامية تقدم خدمات طوعية للمجتمع بجانب بعض المنظمات المدنية التابعة لها  والتي لعبت أدوارا مقدرة فى مساندة الضعفاء خاصة في المجالات الإغاثية والتعليمية والمصالحة الوطنية ، بيد أن المنظمات غير الحكومية ذات التوجه الإسلامي يؤخذ عليها أنها  تقوم  أحيانا بدور الجسر بين المجتمع المدني والمؤسسة السياسية للأحزاب الإسلامية  وقد تستخدم  التيارات الإسلامية  هذه المنظمات كقوالب لإقامة روابط مع الفقراء ، من أجل تجنيد أتباع جدد أو توسيعها في بعض الحالات ، ([8]).  ولكن مع ذلك ظلت خدماتها فريدة لما تتوافق عادة من قيم مشتركة مع المجتمع الصومالي المسلم، عكس مؤسسات المجتمع المدني المدعومة من المؤسسات الغربية والتي عادة ما تصطدم مع ظروف البيئة المحلية التي تعتبر أفكارها مستوردة  من خارج منظومة القيم الإسلامية . ولقد دأبت الجماعات الإسلامية المعاصرة في الصومال  " الإعتصام ، الإصلاح ، التجمع الإسلامي ، حركة الوحدة في صومالاند " والجماعات التقليدية " الصوفيه بمكوناتها المختلفة " القادرية ، الأحمدية ، الصالحية " دأبت علي تقديم  خدمات طوعية للمجتمع وفي مجالات مختلفة ، والأكثر حضورا في العمل المدني هى الجماعات الصوفية لما لها من برامج تعاونية لمساعدة الفقراء وكفالة الإيتام و توزيع أراضى على المحرومين حتي يتسنى لهم إقامة سكن أو مزارع يحرثونها لجلب الرزق ، ولذلك عندما تدقق  العمل المدني  الطوعي لدي التيارات الإسلامية في الصومال ستجد أن التيار الصوفى أو الجماعات الصوفية تسبق نظيراتها من الجماعات الأخري لما لديها  من أوقاف وتعاونيات  كلها تخدم للطبقات الضعيفة والمهمشة للمجتمع  ([9]) .  وتأتى حركة الإصلاح  فى المرتبة الثانية  وتعد من الجماعات الإسلامية التي أبدعت في العمل  الطوعي والمدني  إذ كان هناك  عشرات المنظمات الطوعية التابعة لها أو لأفرادها، والتي  قد نشطت  في مجالات  التعليم والإغاثة والمصالحة خاصة فى التسعينات من القرن المنصرم ([10]) .

الأهم في هذا السياق أن المجتمع المدني النشط مهم لكل الشعوب وتتضاعف أهميته فى  المجتمعات المتأثرة بالصراعات كالصومال لأنه يسد الفجوات ويسخر الطاقات نحو البناء والتكامل ما من شأنه أن يساهم في بناء سلام حقيقي وشراكة صلبة فى مشروع بناء الدولة الصومالية والإنتقال إلى دولة المواطنة والقانون. وسنسلط الضوء في الحلقة القادمة على المنظمات الطوعية  بشقيها  المنظمات الإنسانية الدولية والمنظمات الطوعية المحلية مع التطرق إلى أدوارها في عملية صنع السلام.



[1] . جون أهرنبرغ ، المجتمع المدني التاريخ النقدي للفكرة ، ترجمة على حاكم صالح وحسين ناظم ( بيروت ، المنظمة العربية للترجمة 2008)، ص 440.

[2] .محمد أحمد علي مفتي : مفهوم المجتمع المدني والدولة المدنية : دراسة تحليلية نقدية ، مجلة البيان 1435 هـــــ.  ص 13.

[3] . ورقة علمية جمعها M J Kimani ومنشورة في معهد International Peace Support Training Centre، نيروبى. بعنوان :

 Role of the Civil Society in Peace Support: Operations in South Sudan and Somalia: The Component of Peacebuilding. P 9.  

 

[4] . هو مبدأ االدول الغربية  الديمقراطية التي تشترط غياب التأثير الديني في أعمال منظمات المجتمع المدني و تعتبر هذه الدول هى الداعم الرئيسي لقضايا المجتمع المدني عالميا .

[5] . محمد أحمد شيخ علي ، أكاديمي وباجث فى مجال الدراسات الأفريقية ومدير معهد القرن للسلام والتنمية . لقاء فى اوسلو 14 ديسمبر 2019م.

[6] . تقرير عن المجتمع المدني في صفحة Inclusive Security: Women Waging Peace.

الرابط  : https://www.international-alert.org/sites/default/files/library/TKCivilSocietyArabic.pdf

[7] . لمزيد من تفاصيل المجتمع المدني وأقسامه أنظر رسالة محمد أحمد شيخ على : الصومال في مرحلة ما بعد تفكك الدولة : دور القبيلة والمجتمع المدني في الفترة 1991م، 1999م. رسالة دكتواراه غير منشورة ، جامعة الخرطوم 2004م .

[8] . Valeria Saggiomo, Building the State from below. Networks of NGOs in Somalia. P. 4

https://www.researchgate.net/publication/274705049_Building_the_State_from_below_Networks_of_NGOs_in_Somalia

 

 

[9] . مقابلة مع محمد محمود جوري ، باحث وكاتب ومتخصص فى علم الإجتماع ، ووزير سابق في حكومة جلمدغ  2015 -2016، الصومال .  أوسلو ، النرويج  16 يوليوا 2019م

[10] . مشاهدات الباحث في أعمال الحركة بالعمل الطوعي في مقديشو.

الأحد، 31 يناير 2021

 

                                                     Adam Sh Hassan Husein  


المجتمع المدني في الصومال:  آدم شيخ حسن

توطئة:  يتمتع  المجتمع المدني بأهمية كبيرة في المجتمعات المتحضرة فيقدم من خلال المؤسسات غير الحكومية أو غير الربجية خدمات متنوعة من التعليم والتنمية وتقوية المجتمعات المحلية من التدريب وتطوير المهارات للأفراد والنهوض بدور المرأة وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان .. الخ .  وتتضاعف أهمية المجتمع المدني فى المجتمعات التي تضررت بالصراعات كالصومال ، ولذلك فان المجتمع المدني فى الصومال يحتاج إلي تسليط مزيد من الأضواء فى نشأته ومراحل تطوره ، والأدوار التي لعبها فى المصالحة الوطنية في الصومال ورأب الصدع بين فرقاء السياسية ومشروع بناء الدولة الصومالية ، مع استشراف ما يمكن أن يقدم في المستقبل من خدمات للمجتمع من شأنها أن تساعد الدولة في ترسيخ الحكم الرشيد ودعم سيادة القانون ودولة المواطنة .

نشأة المجتمع المدنى  ومراحل التطور  :

تعود نشأة المجتمع المدني الصومالي إلى إبان الفترة الإستعمارية حينما ظهرت جمعيات ثقافية ونقابات عمالية فى فترة مابين الحربين العالميتين . هذه الجمعيات والروابط  تطورت فى الأربعيتات والخمسينات إلى أول نواه للحركات الوطنية التي ناضلت من أجل الإستقلال . بل يمكن القول أن استقلال الصومال فى عام  1960م  كان ثمرة من ثمرات نضال المجتمع المدني (1)

ومع إنتهاء الربع الأول من القرن العشرين تشكل المجتمع المدني من منظمات متنوعة عمالية وثقافية ودينية وإجتماعية إضافة إلي المنظمات الطلابية التي إنضمت لاحقا إلي المؤسسات المدنية ذات الحضور المهم فى الساحة الصومالية  . وازداد التنوع في تلك المنظمات بزيادة إحتكاك الصوماليين بالعالم الخارجي ، حيث اكتسبو امن خلال هذا الإحتكاك  ومع مرور الوقت بعض الخبرات  في مهارات النتظيم المعاصرة ، وأخذت المنظمات الإجتماعية غير التقليدية في الإزدياد شئاّ فشئا .  تعتبر المنظمة الإسلامية الصومالية " Somali Islamic organization " أول منظمة مجتمع مدني معاصرة فى التاربخ الحديث للصومال . أسسها الحاج فارح أومار(1828- 1948م). وكانت المنظمة تنادى بحق الصوماليين في الحرية وحق تقرير المصير. لقد برزت كذلك في المحمية البريطانية شمال الصومال منظمات أخرى مهمة أهمها إتحاد الموظفين الصوماليين " Somali Official Union " والخيرية " Khayriyah"  وتأسست كلتاهما عام 1935م . كان برنامج إتحاد الموظفين الصوماليين يتركز علي تأمين حقوق العمال والموظفين الصوماليين في الإدارة البريطانية الإستعمارية، فى حين ظلت الخيرية منظمة إجتماعية تعمل في المجال الإقتصادى والتعليمى ، ولها مكاتب فرعية فى معظم مدن الصومال البريطانى . وتطور أعضائها لاحقا إلي سياسيين بارزين حيث صاروا من أبرز قادة الكفاح السلمي من أجل الإستقلال .

أما جنوب الصومال " الصومال الإيطالي " كان نادى الشباب الصومالي"  Somali Youth Club" الذي تأسس قبل أن تخمد نيران الحرب العالمية الثانية عام 1943م في مدينة مقديشو  وعلي يد مجموعة مثقفة من  الشباب . كان أول منطمة إجتماعية أسست هناك ،ليتحول لاحقا إلى حزب سياسي تحت مسمي حزب وحدة الشباب الصومالي عام 1952م .

الجدير بالذكر في هذا الصدد أن تأسست في الصومال الإيطالي وفى  العاصمة الصومالية  تحديدا أول منظمة دينية ثقافية معاصرة  ومستقلة عرفت بإسم الرابطة الإسلامية الصومالية " Somali Islamic league" حيث بدأت فى الوهلة الأولي كردة فعل علي تزايد الأنشطة التنصيرية للأرساليات المسيحية بعد عودة إيطاليا إلى الصومال تحت مظلة الوصاية الدولية( 1950 – 1960 م ) ثم تطورت لتبني أفكار ذات صلة بشكل الحكم في الصومال ، وأضحت تنادى بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية ، إضافة إلى تقوية اللغة العربية فى مجالي التعليم والعمل .   أما من حيث المنظمات الطلابية الصومالية فيعد نادى الطلبة الصوماليين بالقاهرة عام 1952م من أقدم المؤسسات المدنية الطلابية حيث لايزال النادى  قائما حتي الأن يمارس نشاطه من تنظيم العمل الطلابي وإقامة المناشط الثقافية والعلمية ( 2)  بجانب عدد من المؤسسات الطلابية  والشبابية التي ظهرت لاحقا في الصومال ، وزوالت العمل المدني بشكل لافت  .

إزداد نشاط الأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات في الفترة التي أعقبت الإستقلال ، وظلت السمة البارزة لهذه الفترة كثرة المنظمات وتعددها بيد أن أغلبها كان عديم الفاعلية، لا تظهر نشاطاتها إلا فى أيام الإنتخابات أو التظاهرات الإحتجاجية ضد الحكومة . أما فى مرحلة العهد العسكرى فقد حلت الحكومة كافة الأحزاب والجمعيات وأمّمت جميع الشركات التجارية الخاصة ومؤسسات القطاع الخاص معلنة  أنها مسؤولة عن تحقيق المصالح القومية والدفاع عنها مما يعنى أن تحل الحكومة محل المجتمع المدني ، ومن هنا فإنها قد شرعت فى تشكيل منظمات عمالية وشبابية ونسائية وبراعمية لتستقطب من خلالها تاتييد القوى الشعبية . ولم تكن هذه التنظيمات في أغلب الأحيان إلا عبارة عن لافتات صورية للحكومة و من خلالها تنفذ أجنداتها ومشاريعها ولاتمت بصلة بهموم المواطنين وتطلعاتهم نحو تقدم البلاد وإزدهارها .

لقد أسفرت هزيمة القوات الصومالية في حربها ضد إثيوبيا عامي 1977/1978م وفشل الحكومة في تحقيق شعارها الخاص بتوحيد الأراضى الصومالية عن لجوء مئات الألاف من اللاجئين الصوماليين والأورميين من مناطق الحرب إلى الصومال ليصبحوا عبئا علي الإقتصاد المتهالك . وظهرت  إثر ذلك معارضة مسلحة تسعي إلى الإطاحة بالحكومة ، الأمر الذى أدى إلي تراجع الحكومة عن تنفيذ كثير من إلتزاماتها تجاه المواطنين في المجالات الإقتصادية والإجتماعية . هذا التراجع النسبي أفسح المجال لظهور منظمات ومؤسسات خاصة كالمنظمات الطوعية التى تعمل وسط اللاجئين والمدارس والمستشفيات والشركات والمصانع الخاصة . وعلي الرغم من هذه البدايات لمؤسسات المحتمع المدني فإنه يمكن القول   بأن سقوط الحكومة المركزية عام 1991م وما تبعها من إنهيار المؤسسات العامة يعتبر السبب أو العامل الرئيس لميلاد أكبر شريحة من مؤسسات المجتمع المدني فى الصومال (3)

 

        

                                                                                                المزيد في الحلقة الثانية

 

 

 

        

                                                                         

المراجع :

1.    محمد أحمد شيخ على ، الصومال في مرحلة ما بعد تفكك الدولة : دور القبيلة والمجتمع المدني في الفترة 1991م-1999م. رسالة دكتواراه غير منشورة ، معهد الدراسات الأسيوية والأفريقية، جامعة الخرطوم . 2004م، ص 296.

2.     فاطمة الزهراء على الشيخ احمد :  السياسات الامريكية تجاه الصومال (القاهرة : دار الفكر العربى 2008 م ) ط الاولى. ص : 67- 68.

3.      محمد أحمد شيخ على ، الصومال في مرحلة ما بعد تفكك الدولة . مرجع سابق، ص 296-297.

الاثنين، 1 يوليو 2019

الصومال




                             الصومال: الحلقة الأضعف فى الصراع المتجدد في المنطقة                                    

                 تشهد منطقة القرن الأفريقي فى هذه الايأم سلسلة من الأحداث المهمة و التي لاشك أنها شتؤثر سلبا وإيجابا على جملة القضايا المصيرية لشعوب هذه المنطقة . فالصراع الخليجى الخليجى أو مابات يطلق حاليا بسياسة إستقطاب المحاور لاتفوتها شاردة ولاواردة إلا وتلقى بظلالها على التفاصيل المملة للمشهدالعام، الهدف منه التأثير وإستقطاب الولاءات ، كما أنها لاتتورع في إستخدام أساليب قاسية إذا اقتضى الأمر لحسم الموقف .

 وقد حدث فى إثيوبيا مع بداية حكم أبى أحمد فى منتصف العام الماضي سلسلة من التغييرات التي لا تقل أهمية عن تلك التى تجرى فى المنطقة برمتها منها حدوث تحول شبه ديمقراطي فى إثيوبيا وصعود عرق "اروما" لحكم أكبر وأهم دولة فى المنطقة ، وتسوية الصراع الأثيوبى الارترى المزمن والمرير عبر مصالحة ودية فتحت الباب علي مصراعيه لتقارب سياسي بين الدولتين لم يسبق له مثيل منذ ظهور دولة ارتريا فى خارطة دول القرن الأقريقى فى نهاية القرن المنصرم . هذا التقارب النوعي  بين الدولتين وخاصة فى المسائل ذات الصلة بالسياسات الخارجية حمّلت الدولة الصومالية " الحلقة الأضعف فى الصراعات الدائرة  في المنطقة " أن تنضم اليهما ليتشكل حلفا ثلاثيا لم يعجب جيبوتي ، وهي الأخرى التى لها نزاع حدودى مع دولة إرتريا لم يتم تسويته حتي اللحظة . إضافة الي الصراعات المحتملة فى المضايق وتمثل البحر الأحمر ومضيق باب المندب الجزء الأهم في ذاك الصراع المحتمل . كل هذه العوامل المتشابكة والمعقدة تجعل المنظقة تسير فوق رمال متحركة .

 فالصومال لها عدوات تقليدية وتاريخية مع إثيوبيا وكينيا المتمثلة بأن الأول مازال يطالب أقاليمه المحتلة من قبل هاتين الدولتين و لا يعترف حدود المستعمر والمعتمد من قبل الاتحاد الأفريقي. وتتعامل كل من إثيوبيا وكينيا مع الصومال بسياسة إضعاف الخصم وجعله مشغولا في قضاياه الداخلية كي لا يتفرغ للمواجهة والتي حسب ما تبدوا حاليا بعيدة المنال لأسباب أولها أن دولة الصومال غير قادرة علي حماية سيادة بلدها  ولا تسيطر إلا جزء يسيرا من الوطن " العاصمة وحواليها "  بينما كينيا تتدخل فى جنوب الصومال ولو تحت ستار تفويض الإتحاد الأفريقي وإثيوبيا كذلك ولكن فى الجنوب الغربي والوسط لدعم فصائل معينة وأحيانا تتورط قواتها بمهام تقوض كيان الدولة ووجودها.

      واللافت للنطر في الأونة الأخيرة أ ن كينيا الجارة الجنوبية للصومال تصعد حملة محمومة ضد الصومال وفي أكثر من صعيد ،  ورغم أن الدافع الحقيقي هو الخلاف البحري الذي ستبت فيه المحكمة الدولية فى أحقيته لمن؟  لاحقا من هذ العام،  إلا أن الدبلوماسية الكينية تحاصر الموقف الصومالي من خلال الضغط علي ملفات عدة  كفتح علاقات مع الولايات الفدرالية والاتصال بجمهورية أرض الصومال وربما الاعتراف بها لحمل القيادة الصومالية بالقبول علي التنازل أوالتسوية خارج نطاق المحكمة الدولية.    

             وتشهد الصومال في ظل هذه التغيرات الدراماتيكية في المنطقة ضعفا في الرؤية الاستراتيجية وتخبطا لامثيل له في السياسة الخارجية بجانب أنها لا تملك المقومات الكافية للدفاع عنها في ظل حدوث أي مكروه لها ولسيادته، الأمر الذي يجعلها بأنها الحلقة الأضعف على الإطلاق في الصراعات الدائرة حاليا والمحتملة مستقبلا. 


                                                                         


السبت، 9 مارس 2019

الصراع السياسي في الصومال" 5" الديكتاتورية ومرحلة حكم نظام سياد بري


الديكتاتورية ومرحلة حكم نظام سياد برى :

ومع نهاية عام 1969م ، طفى للسطح و على نحو متزايد هزالة الديمقراطية البرلمانية في الصومال وأنها قد أصبحت لعبة  يتقتها السياسيون للعبث بإرادة الشعب و لا صلة لها بالتحديات اليومية التي تواجه المجتمع ، وقد تجلى ذلك بوضوح فى إنتخابات عام 1967م ، حيث صارت التعددية الحزبية لاتطاق بجانب إنتشار الرشوة  وشراء الذمم والفساد الإنتخابى ، لتكون المحصلة فقدان ثقة الشعب بالحكومة المنتخبة وإعتبار الانتخابات ذاتها وجها من أوجه التفريط فى القضايا الجوهرية للأمة .

وتحديدا في الخامس عشر من أكتوبر عام 1969م ،إغتال فرد من قوات الشرطة الرئيس : عبد الرشيد على شرماركى، وبعد مضي ستة أيام فقط نظمت القوات المسلحة إنقلابا أبيض أى غير دموى. وقام القادة العسكريون بقيادة الجنرال سياد برى  بتنظيم المجلس الثورى الأعلى ، الذى تلقى فى البداية ترحيبا صاخبا. إذ تم اعتبارهم كأبطال تركوا الثكنات لإنقاذ الأمة. وكان للمجلس الثورى الأعلى  آنذاك الحرية فى التصرف بشكل حاسم وتسوية القضايا التى يناقشها البرلمان الغير فعال بشكل غير نهائى ، مثل إنتقاء الهجاء الرسمى للغة الصومالية كذلك التصرف بحزم فى برامج محو أمية البالغين واستيطان النازحين أو المتشردين بسبب الجفاف .  

وفى عام 1970 تبنى سياد برى "الاشتراكية العلمية" كأيدلوجية توجيهية مُرشدة لنظامه وقدّم سياسات لتجريم الهويات العشائرية أو القبلية. لكن هذه النشوة بدأت فى الزوال فى منتصف عام 1970م ، وبحلول هذا الوقت أصبح من الواضح عدم نية المجلس الثورى الأعلى فى استعادة الديمقراطية كما وعد ، بل كان أكثر تركيزا فى الحفاظ لنفسه على السلطة وإمتيازاتها ، بما فيها نشر الشرطة السرية فى كل مكان وزمان لتأديب كل من تراه غير محترم دون الرجوع إلى القانون . وكان أول ضحايا السلطة المتعسفة المستبدة  الجنرالان محمد عينانشي  وصلاد جابيري ، وإعدام أكبر صانعى الانقلاب فى عام 1971 م ، فى حادثة وصفت هى الأخرى أنها بداية جديدة لمرحلة فاصلة فى التاريخ الصومالى الحديث ، لما يحوم حول القضية من ملابسات حتى اليوم فى دستوريتها ومن قبلها صحة الإتهامات الموجهة إليهم  ، و أيا كانت الدوافع فلا يوجد دليل على فساد المجلس الأعلى الثورى أكثر من أفعال رئيسها  (سياد برى ) . حيث سمح برى بتحريف التبجيل الذى تقره الدولة وتعترف به لـ "الثورة" إلى طائفة من إطراء شخصى متملق ذليل لم يُسبق رؤية مثيله حتى الأن فى تاريخ البلاد. 

على الرغم من الحملة الرسمية ضد "القبلية" وتعزيز الاشتراكية العلمية وقضية الصومال الكبرى بمثابة أيدلوجيات موحدة ، بنى سياد برى سلطته على أساس التلاعب بالعشائر وتنفيذ أساليب تقليدية كلاسيكية بناء علي قاعدة فرق تسد ، لتكشف الحرب مع إثيوبيا (ما بين عامي 1977 و 1978) م عن نقاط ضعف سياد برى والسلطة الجوفاء.

وقد أصر الزعماء السياسيون فى مقديشيو قبل فترة طويلة من الاستقلال منذ عام 1960 إلى أوائل عام 1970،  كما اسلفنا الذكر على حق تقرير المصير للشعب الصومالى الذي يعيش فى منطقة  الصومال الغربى "أوغادين " فى إثيوبيا . وفى عام 1970 ، أرسل برى قواته ، معتقدا أن الإستيلاء على منطقة " أوغادين" كان فى متناول يده بسبب ضعف إثيوبيا بعد الثورة وتسليح الجيش الصومالى جيدا بفضل الدعم السخي من الاتحاد السوفيتى. وسرعان ما حقق الصوماليون تقدما كبيرا وهددوا المدن الرئيسة فى) هررHarar وديرا داوا( Diradhabe . قبل إعادة إمداد الجيش الإثيوبى من قوات الاتحاد السوفييتى ودعم القوات الكوبية ، وقيامهم بالهجوم المضاد ودفع القوات الصومالية مرة أخرى إلى الحدود.

     لقد أزالت الهزيمة في عموم القومية الصومالية كأيدلوجية شرعية لنظام سياد برى، كما أدت كارثة  النكسة فى أوغادين إلى البحث عن عشائر ككبش فداء ، وانفجار الانشقاقات العشائرية فى العراء. وقد أصبح استخدام النظام للتنافس والمحسوبية بين العشائر من ناحية ، والقمع من ناحية أخرى كوسيلة للحفاظ على السلطة  واضحا بشكل متزايد فى عام 1980م . فمع تآكل السلطة نما إعتماده على القوة التعسفية حتى مطلع الثمانينات، حيث اعتمد على اساليب الرعب والتلاعب بهويات العشيرة للبقاء في السلطة([1])

وايا كاتت الأحوال فقد اتسمت مرحلة الحكم العسكري فى الصومال  بجملة من التناقضات ، ولاتوجد بين الصوماليين مرحلة تاريخية مختلفة عليها من حيث التقييم  ومعاييره مثل تلك المرحلة ، فهناك من يمجدها بدرجة التطرف ، كما أن هناك من يعتبرها نقطة سوداء فى تاريخ الصومال الحديث وفيما بينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من النا س .

 ثمت مقولة تتكرر غالبا  فى الشفاهة والتدوين عند الحديث عن الشان الصومالى أنه لم يعرف على مدى تاريخه حياة سياسية في إطاردولة ذات مؤسسات رسمية، بل خضع لنظام التراث المتجدد من تاريخ إستقلالها وحتى الأن .  وكان تنظيم الدولة قائماعلي إجماع مجتمع  سادت فيه رؤية دولة قومية صومالية حديثة اكثر دوما وذات صلة بالاسلام.      

لذلك نجد من يجزم أن دولة الصومال قد وصلت ذروة عزها مباشرة عقب انقلاب عام 1969 م ، عندما نجحت حكومة سياد بري الثورية  في تعبئة المجتمع سعيا وراء الحداثة وتحقيق المثل العليا للفكر القومي.  كانت فكرة "صوماليا" في فتلك الفترة تتجاوز أفق العشيرة القصير وتطمح الي تجاوز الحدود التي تركها المستعمر ولم شمل الشعب الصومالي الذي قسمة المستعمر الى خمسة أجزاء تحت علم ودولة واحدة. كما ارتبط الفكر القومي الصومالي  بمحاولة اللحاق بقطار الحداثة لدى تطرق كتابة اللغة الصومالية بهدف تعجيل جهود محو الامية ([2]). لتمتد الى المكونات الأخرى من التحديث التي شملت  إقامة البني التحتية وتقديم الإغاثة لضحايا المجاعة المشهورة فى عام 1974م ، و بناء جيش صومالى قوى أعداده كبيرة ولديه عتاد رهيب وحديث لبلد نوعا مايصنف أنه  صغير مقارنة لجيرانه ، بدا الجيش  حينئذ وكانه أكبر من حجم بلده ، وكان  ذلك بلاشك مصدرا للفخر فى الوطن ومجدا للعسكر وفى مقدمتهم اللواء سياد ([3]) .

ولكن كما يعرف بطبيعة الأنظمة العسكرية فان ما تبنيه من أمجاد وعز تخسره  كذلك فى سبيل البحث عن مجد الذات ، وهو ما حدث لاحقا مع النظام العسكرى فى الصومال بقيادة اللواء سياد برى لتحشر الوطن كله فى كفة الزمرة الحاكمة والمقربة من الرئيس ، وصارت الوطنية  المعنى الأخر للديكتاتورية ليتزلف الكل نحو النظام ومدح قائده مما أهله  للولوج الى الفشل وفى أوسع  ابوبه ، فصادر الحريات الأساسية من  حق الأفراد فى  الإنتماء إلى نتظيمات أو أحزاب  سياسية وإيجاد إعلام حر وغيرها من القرارات التى جعلت المواطن يشعر وكأنه مغترب فى داخل بلده .

وقد تعمد النظام كذلك  فى الإخلال فى مبدأ تقاسم السلطة بين ممثلى المجتمع الصومالى وشرائحه كما حصر الثروة فى أيدى فئة معينة تكن له الولاء وعلى أساس فبلى صرف ، إضافة الى وأده للديمقراطية الوليدة فى البلاد ومبدأ الإنتقال السلمى للسلطة ، وصار القمع سيد الأحكام واهدرت الحريات الأساسية وهاجرت العقول النيرة الى الخارج وتحولت البلاد إلى ثكنة عسكرية تحكم بالمراسم وليس بالدستور .

 ولم يقف عند هذ الحد بل جرت همجيته أحيانا الى قتل مواطنيه لأتفه الأسباب بعد إجراء محاكمات هزلية  على محالفيه فى الرأى ، لتتحول البلاد الى جو من العنف يسود فيه المنطق القبلى وتصعف سلطة القانون وتنفجر الأحفاد القبلية ([4]) .  كل هذه الخطوات المجتمعة وغيرها أفقدت النظام شرعيته وعززت من مواقف معارضيه من الحبهات الصومالية رعم رداأتها فى الغلاف والمحتوى على حد سواء .





[1] .Terrence Lyons And Ahmed I.Samatar : State collapse , Multilateral Intervention, and Strategies for Political Reconstruction. (1995, Washington D.C. The Brookings Institution) PP. 14.15.
[2] .Alex De Waal: The real Politics of The Horn Of Africa , Money ,war And The Business Of Power  ( Uk . Polity Press 2016. P.110

[3] . ibid :P: 110
[4] . حسن محمود عبد الله : الجبهات الصومالية النشأة والتطور ،  ص 54.